فوجئنا - منذ فترة- بأحد الذين يتحدثون على شاشات القنوات الفضائية يزعم أن رحلة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف هي:
"محاولة فشلت ضمن 25 محاولة أخرى فشلت كلها"! !! اتهمت أذني وقلت لنفسي لعلى لم أسمع جيدا، أو لعل الرجل لا يقصد، فإذا به يعيد الكلام بكل جرأة، وكأنه يتحدث عن رحلة أو محاولة فاشلة لزعيم سياسي - أو شخصية معاصرة- لحشد أنصار أو تحقيق مكاسب دنيوية! !
ولمّا كانت هذه المسألة ما زالت تثير جدلا واسع النطاق في كثير من المواقع على الانترنت، فقد استعنت بالله تعالى على إيضاح بعض الأمور المتعلقة برحلة الطائف، وإلقاء الضوء على الدروس المستفادة، والثمرات المستطابة التي يرزقها الله سبحانه وتعالى - بحوله وفضله وإحسانه- من يشاء من عباده الباحثين في بستان السيرة العطرة.
وقد وفّق الله عبدا فقيرا إلى عفوه وكرمه ورضوانه فاستخرج خمسة عشر درسا وثمرة من هذه الأطايب. ولعل آخرين من أهل العلم والفضل يهتدون إلى أكثر من ذلك بمشيئة الله.
وفيما يلي نعرض هذه الثمار والدروس والحكم البالغة. .
في البداية لابد من الإشارة إلى خطورة الكلام بهذا الأسلوب الذي يتسم يسوء الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم. فالكلام عنه أو عن أحد من إخوته الأنبياء- عليهم السلام أجمعين- ينبغي أن يكون بكل توقير و حرص وهيبة وحذر والتزام بما فرضه الله تعالى علينا من احترام لمقام الأنبياء الرفيع.
وفى إطار ما هو معلوم من الدين بالضرورة من أنهم ليسوا كغيرهم من البشر، فهم معصومون من كل ما يشين، تحوطهم رعاية الله تعالى وتوفيقه في كل لحظة. ولا يجوز مطلقا الحكم على نتائج أعمالهم بمقاييس البشر التي تبقى أبدا ساذجة و سطحية وقاصرة.
وأقل ما يمكن أن يقال عن هذا الوصف للرحلة المباركة بأنها: " محاولة فاشلة" أنه نتيجة حتمية لنقص نصيب القائل من العلم بالسيرة العطرة، فهو يهذى بما لا يدرى!!
ثم من أين جاء برقم 25 هذا؟! من أين أتى بهذا القول: " فشلت 25 محاولة للرسول"؟!!
هذا الهذيان لم أجد له أثرا إطلاقا في أي مرجع علمي محترم من المراجع الموثوق بها في السيرة العطرة!!!
سبحانك.. هذا باطل نبرأ إليك منه، ومن عمل كل من ينشره، ومن قول كل من يصرّ علي التمسك به.. ولا يقولن أحد أن النصيحة هنا يجب أن تكون سرّية، فقد بثّت تلك الأباطيل علانية، و تلّقاها ملايين المشاهدين عبر تلك القناة الفضائية ثم عشرات المواقع على شبكة الانترنت، فوجب تصحيح هذا علانية أيضا كيلا يفتتن العوام بمثل هذه الجهالات الشنيعة.
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.
لقد كان من الممكن- جدلا- أن نلتمس بعض العذر لهذا القائل لو أن أحدا لم يؤمن بالرسالة طوال الفترة التي زعم أنها شهدت 25 محاولة فاشلة، لكن الواقع والتاريخ يثبتان أن عددا كبيرا من خيار الناس كانوا قد أسلموا خلال تلك الفترة من عمر الدعوة.
أين الفشل إذا كان قد دخل في الإسلام- في تلك الفترة- "أبو بكر " وحمزة بن عبد المطلب وعثمان بن عفان وعلى بن أبى طالب وسعد بن أبى وقاص وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وبلال بن رباح وعمار بن ياسر وصهيب الرومي وخباب بن الأرت ومئات آخرين رضي الله عنهم، ثم عمر بن الخطاب بعدهم، منهم من كان يجهر باعتناق الحق، ومنهم من كان يخفى إسلامه تجنبا لبطش المشركين؟! !
والله إن كل واحد من هذه النجوم الساطعة في سماء البشرية لترجح كفته بالملايين من غيرهم. . كل واحد منهم هو " أمّة "كاملة ولو كان وحده. . وحاشا لله أن تكون قد "فشلت محاولات" من هداهم الله به إلى الحق والفلاح.
***
ومن يقرأ ويتأمل - بهدوء وتعقل وبصيرة - تفاصيل رحلته عليه الصلاة و السلام إلى الطائف سوف يجد أنها أثمرت الكثير من الإنجازات والدروس والعبر العظيمة التي لم تكن لتتحقق بدونها، وبالتالي فقد نجحت نجاحا تاما بكل المقاييس.
لقد لقي الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه - السابقون الأوّلون - رضوان الله عليهم كل ألوان الأذى والبطش والاضطهاد من طواغيت قريش الذين بذلوا أقصى ما في وسعهم للقضاء على الدعوة المباركة بلا جدوى. .
وتلك هي سنّة الله في الذين خلوا من قبل.
ولأن رسالة الإسلام عامة لكل الخلق، فمن البديهي ألا يقتصر الرسول صلى الله عليه وسلم على دعوة قريش فقط. وهكذا بدأ عليه السلام في التحرك لدعوة المقيمين بمناطق أخرى خارج مكة المكرّمة.
في شوال من السنة العاشرة بعد بدء نزول الوحي [في أواخر مايو أو أوائل يونيو سنة 619 م] خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، وهي تبعد عن مكة حوالي ستين ميلًا، مشاها على قدميه الشريفتين ذهابا و إيابا.
ومن المعلوم بالضرورة كذلك أنه قد اتجه إلى الطائف بأمر من الله تعالى، فهو عليه السلام لا يفعل هذا من تلقاء نفسه. والله سبحانه لا يأمر بشيء إلا لعلمه الأزلي بما فيه من حكم بالغة، سواء علمها الخلق أم جهلوها.
لم يكن معه إلا الله تعالى ثم مولاه زيد بن حارثة. وروى ابن إسحاق أنه بعد وصول النبي عليه الصلاة والسلام إلى الطائف اجتمع بثلاثة من رؤساء ثقيف، هم الإخوة عبد ياليل ومسعود وحبيب أبناء عمرو بن عمير الثقفي.
دعاهم إلى الله وإلى نصرة الإسلام، فقال أحدهم: هو يَمْرُط ثياب الكعبة [أي يمزقها] إن كان الله أرسلك. وقال الآخر: أما وَجَدَ الله أحدًا غيرك، وقال الثالث:والله لا أكلمك أبدًا، إن كنت رسولًا لأنت أعظم خطرًا من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي أن أكلمك.
فقام عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم وقال لهم: [إذا فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني]. طلب منهم ذلك حتى لا تشمت به قريش، وتزداد إجراما وبطشا بأصحابه.
وأقام الرسول صلى الله عليه وسلم في الطائف عدة أيام..لم يترك أحدًا من أشرافهم إلا دعاه إلى الإسلام، فتطاولوا عليه وطردوه .، ثم أغروا به سفهاءهم فلاحقوه وهو يخرج من الطائف، يسبّونه، ويرمونه بالحجارة.
حتى دميت قدماه الشريفتان وسالت على نعليه الدماء. حاول زيد بن حارثة أن يحمي رسوله وحبيبه ومولاه بنفسه حتى أصابوه رضي الله عنه بارتجاج في المخ لكثرة ما تلقاه من ضربات. ولم يزل السفهاء يرمونهما بالأحجار حتى لجأ الرسول وصاحبه إلى حائط – بستان - لعتبة و شيبة ابني ربيعة على بعد ثلاثة أميال من الطائف، فرجعوا عنهما.
( (هنا لقّننا الحبيب صلى الله عليه وسلم الدرس الخالد الأول، وهو الثبات على الحق وتحمل كل الأهوال والأذى والمشقات في سبيل الدعوة إلى الله.
كما علّمنا زيد رضي الله عنه–بدوره -درسا ثانيا هو: أن ندافع عن الرسول والرسالة بالنفس والنفيس. ولو لم يكن في الرحلة الخالدة من دروس وعبر إلا هذا لكفى)).
***
جلس صلى الله عليه وسلم تحت شجرة عنب وراح يناجى ربه بدعائه الشجي المؤثر الذي تعلّمه منه ( (درسا ثالثا))كل مسلم يمرّ بشدّة أو بلاء أو محنة إلى قيام الساعة:
«اللهُمَّ إنِّي أشْكُو إليْكَ ضَعْفَ قَوَّتِي وَقِلَّةَ حِيلَتِي وهَوَانِي عَلى النَّاسِ. يَا أرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أنْتَ رَبُّ المُسْتَضْعَفِينَ، وأنْتَ رَبِّي، إلى مَن تَكِلُني؟ إلَى بَعِيدٍ يُتَجَهَّمُنِي أو إلى عَدُوَ مَلَّكْتَه أمْرِي، إن لمْ يَكُنْ بِكَ عَلَيَّ غَضَبٌ فَلاَ أُبَالِي، ولكِن عَافِيَتَكَ هي أوْسَعُ لِي. أَعوُذُ بِنُورِ وجْهِكَ الذِي أشْرَقَتْ بِه الظُلُمَاتُ وصَلُحَ عَلَيهِ أمْرُ الدُّنْيَا والآخِرَةِ من أنْ تُنْزِلَ بي غَضَبَك، أو تُحِلَّ عَلَيَّ سَخَطَكَ، لَكَ العُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، و لاَ حَوْلَ ولاَ قُوَّةَ إلاَّ بِكَ». (1)
فلما رآه ابنا ربيعة شعرا نحوه بالعطف – لأنهما من أقاربه - فأمرا غلامًا لهما نصرانيًا اسمه عَدَّاس بأن يعطى محمدا قطفًا من العنب . وضع عدّاس العنب بين يدي الحبيب صلى الله عليه وسلم فمد يده إليه قائلًا: (باسم الله ) ثم أكل.
( (نلاحظ هنا درسا رابعا في جواز قبول هدية وضيافة الكافر للمسلم عند الضرورة وجواز أكل طعامه))
سيطرت على عدّاس دهشة بالغة. لقد كان يعلم أن سكان مكة وما حولها مشركون يعبدون الأصنام، فمن أين لمحمد هذا – ذكر اسم الله تعالى على الطعام -.قال عدّاس للنبي متعجّبا: إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد.
سأله صلى الله عليه وسلم: (من أي البلاد أنت؟ وما دينك؟) قال عدّاس : أنا نصراني من أهل نِينَوَى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرية الرجل الصالح يونس بن مَتَّى).. زادت دهشة وعجب عدّاس فسأل النبي: وما يدريك ما يونس ابن متى؟ أجاب صلى الله عليه وسلم: (ذاك أخي، كان نبيًا وأنا نبي). فأكبّ الغلام على رأس الرسول صلى الله عليه وسلم ويديه ورجليه يقبلها باكيا .
( (درس خامس للدعاة: أنه صلى الله عليه وسلم استثمر حتى لحظات الاستراحة القصيرة، رغم الأوجاع والآلام والإصابات البالغة في جسده الشريف، في دعوة الغلام إلى الإسلام كما نلاحظ))
قال ابن ربيعة لأخيه : أما غلامك فقد أفسده عليك. فلما جاء عدّاس صاحا به : ويحك ما هذا؟ أجاب: يا سيدي ما في الأرض شيء خير من هذا الرجل، لقد أخبرني بأمر لا يعلمه إلا نبي، قالا له بغيظ شديد : ويحك يا عدّاس، لا يصرفنّك عن دينك، فإن دينك خير من دينه. وهكذا أسلم عدّاس رضي الله عنه.
( (وتلك ثمرة سادسة من ثمرات الرحلة المباركة.
ونتعلّم من عدّاس بدوره درسا بليغا ( (سابعا)) هو أن الإنسان ينبغي عليه قول الحق وإتباعه فورا بلا اعتبار لرأى المجتمع أو حجم التضحيات أو المخاطر التي قد يتعرض لها، فانه لم يعبأ برأي سيده وأخيه واعتراضهما، وجهر بتأييد الحق والإيمان بالله و بالرسول، رغم ما قد يصيبه بسبب ذلك)).
ولم يكن هو وحده الذي أسلم بسبب تلك الرحلة، فقد أسلم عدد من عبيد الطائف لكنهم ظلّوا يكتمون إيمانهم – في رأى كاتب هذه السطور-إلى أن تمكنوا من الفرار من بطش سادتهم، ولحقوا بالمسلمين بعد ذلك فأعتقهم النبي صلى الله عليه وسلم(2). .ولو لم يذهب الرسول في رحلته الأولى تلك إلى الطائف فكيف كانت الفرصة ستأتي إلى هؤلاء جميعا للعلم بالإسلام ثم الدخول فيه؟! ! ( (وهى الثمرة الثامنة))
وهذا هو الحال في كل الرسالات السماوية، إذ جرت سنّة الله تعالى على أن يكون أكثر من يتّبعون الحق هم الضعفاء والأرقاء، وأن يكون أعداء الرسل هم الطواغيت وزعماء القوم الذين تهدّد رسالة الإيمان والعدالة والمساواة مصالحهم وحياتهم المترفة الناعمة، وامتيازا تهم الظالمة على حساب باقي البشر.
ثم إن واجب الرسول – كل رسول- هو الدعوة والبلاغ فحسب، وأما النتائج – الهداية- فهي بيد الله وحده لا شريك له. ولو كان نجاح الدعوة يقاس بعدد الأتباع فحسب لظنّ بعض السطحيين والجهلة أن نبيّا عظيما مثل سيدنا نوح عليه السلام قد أخفق أيضا – حاشا لله - لأنه عاش يدعو قومه إلى التوحيد ألف سنة إلا خمسين، ولم يؤمن معه إلا عدد قليل من الناس حملتهم سفينة واحدة.
وهناك الحديث المتفق عليه الذي أخبر فيه الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم أنه يأتي يوم القيامة أكثر الأنبياء أتباعا، وأن من الأنبياء من سوف يأتي ومعه الرجل الواحد، ومنهم من سيأتي ومعه الرجلان، ومنهم من سيأتي وليس معه أحد. (نص الحديث في الصحيحين)
و كذلك نورد جزءا من حديث رواه الإمام مسلم عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (...وإن من الأنبياء نبيًا ما يصدقه من أمته إلا رجلٌ واحد) . هل يعيب نبيا عظيما أنه لم يؤمن به أحد من قومه؟! ! بل ماذا يمكن أن يقال – لو قبلنا هذا المنطق الأحمق – عن أنبياء عظماء قتلهم أقوامهم، وخاصة من قتلهم اليهود لعنهم الله؟! ! أتقولون عن الشهداء الأبرار أنهم قد فشلوا أم أنهم فازوا فوزا عظيما يغبطهم عليه كل من سواهم؟!
إن الرسل عليهم السلام جميعا قد أدّوا الأمانة وبلّغوا الرسالة على أتم وأكمل وجه، وليست الكثرة دليلا على الحق أو النجاح، فالنبي هو الحقّ، وهو الأمّة ولو كان وحده، ولم ولن يدخل في الإسلام إلا من شاء الله.
ومن ينشط للدعوة ويؤدى واجبه في إبلاغ الرسالة فقد نجح تماما بغض النظر عن النتائج. وهناك آيات كثيرة حاسمة تفيد صراحة أنه ليس على الرسول إلا البلاغ - أي التبليغ - أو الإبلاغ والإرشاد والإيضاح فحسب ومنها:
1- (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ [سورة المائدة: 92].
2- وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ [سورة النحل: 35].
3- فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ [سورة النحل: 82].
4- قلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ [سورة النور: 54].
5- وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ [سورة العنكبوت: 18].
6- وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ) سورة يس: 17).
والهداية بيد الله وحده لا شريك له: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) سورة القصص الآية 56. وآية كريمة أخرى تقول صراحة: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)
سورة البقرة الآية 272.
وعلى ضوء ما تقدم نعلم يقينا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أنجز المقصود الأعظم وهو دعوة القوم إلى الله، ونجح كل النجاح في رحلته المباركة.
***
و في طريق العودة إلى مكة -بعد خروجه صلى الله عليه وسلم من البستان - بعث الله سيدنا جبريل ومعه ملك الجبال إلي الرسول صلى الله عليه وسلم، يستأذنه في أن يطبق الجبلين – يهدمهما- على رؤوس الكافرين أي: أن يهلكهم جميعا .
روى البخاري عن عبد الله بن يوسف، عن يونس عن ابن شهاب قال حدثني عروة أن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم حدثته أنها قالت للنبي عليه السلام هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من أحد؟ فقال "لقد لقيت من قومك.
وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت على وجهي، وأنا مهموم، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال إن الله قد سمع قول قومك لك.
وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم علي فقال يا محمد ذلك لك، إن شئت أطبق عليهم الأخشبين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا".
وهكذا يطمئن الله تعالى نبيه ويؤازره بجنود من الملائكة لا قبل للكافرين بهم ولا طاقة لهم بحربهم. لكنه عليه الصلاة والسلام تأخذه الرحمة والشفقة بقومه رغم كل ما فعلوه به وبأصحابه، ويأبى نزول العذاب بهم، ويؤثر أن يعطيهم الفرصة تلو الأخرى لعلهم يهتدون أو يخرج من أولادهم وأحفادهم من يعبد الله. و لا عجب فهو الذي أرسله ربه: ( (رحمة للعالمين)) الأنبياء الآية 107. صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا
( (وهنا نتعلّم الدرس التاسع في: الصبر والتأني وعدم تعجيل العقاب للكفّار لعلهم يهتدون أو تهتدي ذرياتهم. ونجد هنا أيضا أحد الأدلة على نبوته عليه السلام، فقد تحقّق بالفعل ما أخبر به من إسلام أبناء المشركين فيما بعد، وهى الثمرة العاشرة من ثمار الرحلة) )
***
بلغ عليه الصلاة و السلام " وادي نخلة"، وأقام فيه أيامًا. وهناك كان على موعد مع نصر عظيم أخر.
فقد بعث الله تعالى إليه نفرًا من الجنّ أمنوا به، و ذكرهم الله سبحانه في موضعين من القرآن: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ الله ِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [سورة الأحقاف:29- 31].
وقال تعالى فى موضع أخر : {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [سورة الجن: الآيتان الأولى والثانية ].
وهكذا أسلم الجنّ ونصروا دين الله في وقت كان أكثر البشر فيه ضالون لا يعقلون شيئا ولا يهتدون! !
((وهى الثمرة الحادية عشرة للرحلة))
فكأن الله تعالى يثبّت فؤاد الحبيب بهذا الفتح بعدما حدث له في الطائف، ولسان الحال يقول: لئن خذلك البشر فإن ربهم ورب كل شيء معك، يؤيدك بمن وبما يشاء من خلقه ( (وما يعلم جنود ربك إلا هو) ) سورة المدثر الآية رقم 31.
وما حيلة البشر الضعفاء - من المشركين- في مواجهة قوى الملائكة والجنّ الجبّارة؟! !
وأي إنجاز أو نجاح أعظم من إسلام الجن وتأييد الملائكة؟! . .و هل هذا قليل؟ ؟!!
ثم إن الآيات التي نزلت بصدد هذا الحادث تحمل بشارات انتشار الدعوة المباركة، وتؤكد أن أية قوة في الكون لن تستطيع أن تحول بينها وبين الانتصار ولو بعد حين : {وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ الله ِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [الأحقاف:32]، {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعجِزَ الله َ فِي الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا} [الجن:12].
***
وكل عمل عظيم يحتاج إلى وقت ليؤتى ثماره، والناس يختلفون في العقول و الطباع والمشاعر والمصالح والأهداف، فلن يجتمعوا كلهم على عقائد أو أفكار واحدة، ولن يدخلوا كلهم في الإسلام بلمسة عصا سحرية أو في وقت واحد.
وكثيرون ممن هداهم الله إلى الإسلام على مرّ الزمان استغرقوا سنين عددا في البحث والدراسة حتى اقتنعوا بالحق واّمنوا به.
والزارع الذي يضع البذور في التربة بعد إصلاحها ثم يرويها، يكون قد أدى واجبه ولا يقال عنه أنه قد "فشل". . أما الإنبات ثم النمو ثم الثمار فبيد الخالق وحده لا شريك له.
***
ونأتي الآن إلى عودته عليه السلام إلى مكة. فقد سأله زيد بن حارثة: كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك؟! يعنى قريشًا، فقال صلى الله عليه وسلم بكل يقين: (يا زيد، إن الله جاعل لما ترى فرجًا ومخرجًا، وإن الله ناصر دينه، ومظهر نبيه).
( (وهذا هو الدرس الثاني عشر: لابد من اليقين المطلق والثقة التامة بموعود الله، ومهما طال الليل فلابد من طلوع الفجر وسطوع الشمس. وهنا أيضا تأكيد آخر ودليل من دلائل نبوته عليه السلام، حيث أخبر زيدا بما جرى بعد ذلك بسنوات من الفتح ودخول الناس في دين الله أفواجا، وما جاء من الانتصار بعد الحصار) ).
وسار الرسول صلى الله عليه وسلم حتى إذا دنا من مكة مكث بحِرَاء، وبعث رجلًا من خزاعة إلى الأخنس بن شَرِيق ليجيره، فقال: أنا حليف، والحليف لا يجير، فأرسل إلى سهيل بن عمرو، فقال سهيل: إن بني عامر لا تجير على بني كعب، فبعث إلى المطعم بن عدى، فقال المطعم: نعم، ثم تسلّح ودعا بنيه وقومه، و أمرهم بحمل السلاح ومشاركته في حماية النبي لأنه قد أجاره. .
ثم أرسل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: أن ادخل، فأقبل صلى الله عليه وسلم ومعه زيد بن حارثة حتى انتهي إلى المسجد الحرام، فقام المطعم بن عدى على راحلته فنادى: يا معشر قريش، إني قد أجرت محمدًا فلا يهجه أحد منكم، وانتهي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الركن فاستلمه، وطاف بالبيت، وصلى ركعتين، وانصرف إلى بيته، والمطعم بن عدى وولده حوله يحمونه حتى دخل بيته.
وقيل: أن أبا جهل سأل مطعمًا: أمجير أنت أم متابع ـ مسلم-؟. قال: بل مجير. فقال الطاغية: قد أجرنا من أجرت.
"وقد حفظ الرسول صلى الله عليه وسلم للمطعم هذا الصنيع، فقال في أسري بدر: (لو كان المطعم بن عدى حيًا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له)".(3) انتهى.
( (وهكذا يعطينا الرسول عليه الصلاة و السلام الدرس الثالث عشر وهو: جواز طلب الاستعانة بغير المسلم في حالات الضرورة.
ثم الدرس الرابع عشر وهو وجوب" رد الجميل " ومكافأة من يسدى إلينا معروفا ولو كان كافرا)).
***
وشاء الله تعالى أن تأتي رحلة أخرى عظيمة - بعد رحلة الطائف - تكريما للحبيب وتشريفا له، وتطييبا لقلبه الشريف، وتثبيتا له وللمؤمنين معه، وهى رحلة الإسراء والمعراج التي رفع الله فيها الرسول صلى الله عليه وسلم أعلى السماوات السبع، وأوحى إليه خلالها ما أوحى، وأراه من آيات ربه الكبرى.
وهكذا تأتى "المنحة" بعد" المحنة"، ويأتي العطاء بعد الابتلاء.
( (وهى الثمرة الخامسة عشرة للرحلة الخالدة إلى الطائف)).
***
وأما محاولة الاستدلال على جواز استخدام وصف " الفشل "بقوله تعالى {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي ٱلأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَٱللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ} الآية 152 من سورة أل عمران
فهو خطأ أشد جسامة من الخطأ الأول، لأنه سوء فهم فاحش لمعنى الآية، بالإضافة إلى دلالته على المكابرة والإصرار على استخدام تعبير "الفشل" الرديء الذي لا يجوز استخدامه أبدا مع المقام النبوي الشريف.
عافانا الله من القول بغير علم! !
ولو أن هذا القائل وأمثاله رجعوا إلى أمهات كتب التفسير لوجدوا أن كبار العلماء مثل الطبري والقرطبى وابن كثير والشوكانى و النسفى والرازي و غيرهم -رضي الله عنهم - قد أكدوا جميعا أن الكلام هنا عن الرماة الذين عصوا أوامر النبي صلى الله عليه وسلم - في غزوة أحد- بالبقاء في موقعهم الحصين أعلى الجبل لحماية ظهر المسلمين وعدم ترك الموقع مهما كانت نتيجة المعركة.
حتى لا يؤتى المسلمون من قبلهم. وقد وقع الفشل المذكور بعد تنازع الرماة ورفضهم الاستماع إلى قائدهم عبد الله بن جبير الذي نهاهم عن عصيان الأمر النبوي الشريف، لكنهم تركوا مواقعهم واندفعوا ليشاركوا في جمع الغنائم بعد أن انهزم المشركون في بداية المعركة. وانتهز الكفّار هذه الفرصة فالتفوا من وراء جيش المسلمين فوقعت هزيمة أحد. .
والوصف الوارد في الآية بالفشل والتنازع والعصيان لا يشمل فعل ولا شخص النبي الكريم أبدا، فهذا كلام لا يمكن أن يقوله عاقل فضلا عن عالم.
بل الفشل والخيبة والخسارة في مخالفة أوامره و الهدى الذي جاء به عليه الصلاة والسلام. . ونلاحظ أيضا ما قررته الآية الكريمة (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة) وهو ما يقطع بأن الكلام كله عن الرماة. .
فقد ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه وغيره قولهم: ما علمنا أن من أصحاب النبي من يريد الدنيا حتى نزلت هذه الآية. فالسياق كله يتحدث عن فشل وتنازع وعصيان الرماة، ثم أوضح المفسّرون – مثل الحسن البصري رضي الله عنه - أن الذين تركوا مواقعهم من الرماة هم الذين يريدون الدنيا، ومن ثبتوا وأطاعوا الرسول هم الذين يريدون الآخرة. رضي الله عنهم ورضوا عنه. (4)
بل إن الهزيمة في أحد جاءت تأكيدا للمنهج وانتصارا له، لأن هؤلاء لو انتصروا رغم مخالفتهم أوامر الرسول عليه السلام، لتكررت المخالفات بعد ذلك، ولحسب كثير من الناس أن العصيان لن يضرهم شيئا، فيحدث بسبب ذلك خلل وفتنة وفساد كبير. فكان لابد من درس قاس هو الهزيمة واستشهاد سبعين مسلما كي يثوب الجميع إلى طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يعصونه بعد ذلك أبدا.
والخلاصة أن وصف الفشل والتنازع والعصيان الوارد في الآية يستحيل شموله للنبي صلى الله عليه وسلم، فلا حجّة هنا للجهلة. والله تعالى أعلى و أعلم.
--------------------------------------------------------
(1) يقول بعض علماء الحديث أن هذا الدعاء لا إسناد له، رغم أنه مذكور في كل كتب السيرة العطرة تقريبا -عند ابن إسحاق وغيره - كما رأيته في تفسير ابن كثير رضي الله عنه، ذكره ضمن كلامه تفسيرا للآية 29 من سورة الأحقاف، وأورده السهيلى فى الروض الأنف، وذكره الإمام ابن القيم أيضا في "زاد المعاد" الجزء الأول. وأورده أبو الفرج بن الجوزى في " الوفا بتعريف فضائل المصطفى". وليس من المعقول أن يثبته كل هؤلاء الفحول في كتبهم بغير دليل.. والله تعالى أعلم بالصواب.
(2) روى الإمامان أبو داود وأحمد بن حنبل رضي الله عنهما حديث عبيد الطائف الذين أعتقهم الرسول صلى الله عليه وسلم عندما خرجوا إليه مسلمين. وقال الإمام الشوكانى في نيل الأوطار: " وقد روي أنهم ثلاثة وعشرون عبدا من الطائف من جملتهم أبو بكرة كما ذكره البخاري في المغازي، وفيه رد على من زعم أن أبا بكرة لم ينزل من سور الطائف غيره، وهو شيء قاله موسى بن عقبة في مغازيه وتبعه الحاكم. وجمع بعضهم بين القولين أن أبا بكرة نزل وحده أولا ثم نزل الباقون بعده وهو جمع حسن، و قوله: أبا بكرة اسمه نفيع بن الحارث، وكان مولى الحارث بن كلدة الثقفي، فتدلى من حصن الطائف ببكرة فكني أبا بكرة لذلك، أخرج ذلك الطبراني بإسناد لا بأس به من حديث أبي بكرة". (نيل الأوطار -الجزء الثامن- طبعة دار الحديث).
(3) للمزيد عن السيرة النبوية العطرة طالع: سيرة ابن هشام والسيرة النبوية للذهبي والسيرة النبوية لابن كثير والطبقات الكبرى لابن سعد وفقه السيرة لمحمد الغزالي والروض الأنف للسهيلى والسيرة النبوية لمحمد على الصلابى والشفا بتعريف المصطفى للقاضي عياض، والوفا بتعريف فضائل المصطفى لابن الجو زى و زاد المعاد لابن القيم و الرحيق المختوم للمباركفورى و حياة محمد لمحمد حسين هيكل.
(4) انظر تفسير الآيات البيّنات الواردة ضمن هذا المقال في الجامع لأحكام القراّن للإمام القرطبى، وتفسير القراّن العظيم للإمام ابن كثير، وتفسير الإمام الطبري، وفتح القدير للشوكانى، ومفاتح الغيب للرازي، وتفسير الإمام النسفى، وتفسير الإمام السيوطى، وتفسير الإمام البيضاوي، وفى ظلال القراّن لسيد قطب، وزاد المسير لابن الجو زى والمنتخب في تفسير القراّن الكريم لمجموعة من العلماء –طبعة المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بمصر، وغيرها من أمهات كتب التفسير.
الكاتب: حمدى شفيق
المصدر: منتديات العفيفات الإسلامية